Saturday 1 March 2014

كيف تنتكس الثورات



قيل إن  الشعوب تنتفض من قهرها لتثور على ظلامها، وتكسر قيود القهر ليشرق فجر الحريات و تعم المساواة و تسود العدالة بعد طول انتظار و تعطش من الشعوب التي عاشت تحت  حكم الدكتاتوريات وظلم الافراد.ولكن هل تنتكس الثورات ، وكيف قبل أن تجف دماء شهداء الثورة، ويصمت نواح الثكالى, يعود حكم الدكتاتوريات من جديد وكأن شيئا لم يكن. 

إن العملية الثورية ليست شيئا بسيطا . ومانراه من شعوب غاضبة تملأ الشوارع ليس هوالمرآة الوحيدة للعملية الثورية ، فمقولة " الثورات نتاج الشعوب " مقولة – على الأغلب – ليست صحيحة بالضرورة,إذ يمكن القول إن الثورات من نتاج النخب الاجتماعية، ونقصد هنا على سبيل المثال نخب المفكرين وزعماء الأندية الاجتماعية و النقابات السياسية. وما الحشود الغاضبة إلا جمار ألهبتها النخب بخطاباتها وأفكارها لتحرق الأنظمة وتسقط الزعامات وترسم مستقبلا رئاسيا للدولة المنتظرة كما تراها تلك  النخب وليس أغلبية الشعب .
لعله من الصحيح القول إن نجاح الثورة يتوقف على مدى الوعي السياسي لنخب المجتمع, فان صلحت النخبة صلح الشعب، وزال الظلم، وعم النجاح. ونرى أمثلة ذلك في  نجاح الثورات في  الغرب و انتكاسات أكثر في عالمنا العربي. فهل ذلك دليل على انعدام النخب الصالحة في عالمنا العربي ؟ إن العالم العربي يمتليء بالنخب الفكرية الصالحة التي تهدف للمصلحة العامة، لكن الغلبة للنخب التي تدفعها قوة الحسد والرغبة في السلطة. وكما قال إوستون ليبون " تتحرك مشاعر كثير من النخب الفكرية و السياسية إلى إطاحة الزعماء بدافع الغيرة و حب السلطة". ومن ثم فإن ما يحرك عددا من النخب في العالم العربي هو سيطرة النزعة العقائدية على تفكيرهم ، وما ينتج عنه من  تحكيم للمشاعر عوضا عن العقل الأمر الذي يفسر الاقتتال بينهم والتنازع غيرالشريف على اعتلاء السطة. ولا يشترط هنا أن يكون المعتقد دينيا فقط ،فالمعتقدات السياسية كاللبرالية مثلا يمكن أن تصير معتقدا مقدسا لا يسمح بالجدال حوله ومن ثم تهيمن النزعة الفكرية أحادية الاتجاه ، ويبرز عقم الجدال حولها ليتقل ذلك إلى عامة الشعب وليعم التعصب العقائدي فيحدث الانقسام و يختلف الأطراف فتفشل الثورات وتسمح بعودة حكم الدكتاتوريات مرة أخرى.
إذن تتأثرالجماعات بالأفكار والمعتقدات المستمدة من النخب تأثرا قائما على العدوى العاطفية لا القناعة العقلية ،فلا غرابة أن  ينشأ الفرد محافظا في مجتمع يميل للمحافظة والعكس صحيح ، حيث تنتقل الفكرة أو المعتقد من فرد إلى آخر في اللجماعة كما تسقط أحجار الدومينو لتصبح الجماعة في أغلبها  مسيرة بمعتقد معين تخلل في عقول أفرادها  دون شعور. وتبقى الجماعات في حالة سكون و ركود إلى أن ياتي زعيم يحركها، فتنتفض و تصغي و تتبع روح زعيمها وتساق كما تساق القطعان. وإن ثارت جماعة على زعيمها يكون ذلك على الأغلب عن طريق خروج زعيم من نفس الجماعة تمرد على زعيمه بفعل تحكيم العقل و ترك العواطف وهذا نادر الحدوث. وتظل العلاقة جدلية بين الطرفين فكما تتبع الجماعة الزعيم دون وعي ، نجد أن نخب المجتمع من مفكرين وزعماء لا يستطيعون الحراك دون الجماعات ، ويدركون عجزهم عن التغيير دون قوتها التي لا يقف أمامها شيء .وهو ما فعله زعماء الثورة الفرنسية بتهييج بعض الجماعات من العامة لاقتحام القصر الفرنسي وجلب الملك وأسرته أسرى بعد قتل حرس القصر ، ويشبه ما حصل في مصر عند اقتحام بعض الجماعات لمراكز الإخوان وحرقها وإتلاف ما فيها ، وبذلك تسخر النخب الجماعات من العامة لتحقيق أهدافها وتمثيل مبادئها وأفكارها .
وماإن تحصدالنخب  مرادها ، وتسقطالحكومة ، ويزول الحاكم المستبد، حتى يبدأ القتال على السلطة ، فتنقسم النخب في ما بينها، ويبدأ كل طرف بتسييرجمهوره المكون من الشعب لدعم نظرياته وأفكاره وتنحل التحالفات تبعا للأهداف والرؤى الفردية ، وصديق الأمس يصير خصما بعد الثورة ، فتغرق البلاد في الفوضى والانفلات السياسي والضجر الشعبي  إلى أن يأتي الفرد القادر على الإمساك بزمام الأمور فيقمع الجميع ويتصدر الحكم بحجة الإمساك بزمام الأمور والحرص على المصلحة العامة ، الأمر الذي قد يتطلب تطبيق الأحكام التعسفية والصرامة في حل الأمور والتعامل معها ، ومن ثم الوقوع في شكل من أشكال القمع الذي ثار الشعب للتخلص منه في المقام الأول . ومرة أخرى هذا ما فعله نابليون الذي جاء بعد أن طفح الكيل بالفوضى التي عمت البلاد ليستولي على الحكم ويعيد عددا من الأحكام التعسفية التي كانت سائدة قبل الثورة ، وهو ما حصل أيضا في مصر عندما استغل الجيش نزاع النخب فيما بينها وضعف قدرتها على إقناع الجماعات والسيطرة عليها أو توحيدها ليأخذ بزمام الأمور ويتزعم كرسي الرئاسة .
هذه العودة إلى الفردية تشي بحاجة عالمنا العربي إلى ما يمكن تسميته بـ " النخب الصالحة " التي تتحلى - كما وصفها أرسطو- بالفضيلة، أي  بالاخلاق لغرس بذور الخير في الجماعات، دون أن يعني ذلك عدم تهييج الجماعات على حكم الدكتاتوريات. فواجب المثقف - كما قال إدورد سعيد - هو حمل عاتق الثقافة و أداء مهمة المثقف لتوعية الجموع إن كانت مضطهدة  ومغلوبة على أمرها. وهذا هو الدور الحقيقي للنخبة المثقفة ، ولا مانع من اختلافها في الرأي - و هذا أمر طبيعي – لكن شرط التنافس الشريف فيما بينها . بالإضافة إلى ذلك –وهوالأهم– فإننا  بحاجة إلى نخب فكرية تغرس في المجتمع  و الجماعات حب الفكر والمبدأ لا حب الشخص وتمجيده في ذاته . ولعل الإشكالية الأساسية التي تعاني منها النخب الفكرية و زعماء الأندية السياسية هي الاهتمام بالوصول إلى الحكم وقيادة البلاد من منطلق فردي يتم فيه التركيز على القدرات الذاتية للفرد أكثر من الاهتمام بترويج الفكرة الحزبية أو المبدأ الجماعي ويستندون في ذلك إلى العقلية السائدة التي تهتم بالفرد وتتعطش لرؤية القائد البطل الذي يعيد أمجاد القادة التاريخيين وبطولاتهم ومآثرهم ، ذلك القائد الفرد القادر على إنقاذ البلاد من الضعف . ولعل تجربة الإخوان المسلمين في مصر يمكن أن تمثل نموذجا على إعطاء الأولوية للفكرة الحزبية على الفردية ، ودليل ذلك أنهم لم يختلفوا في إيجاد بديل عن خيرات الشاطر حينما تم إقصاؤه عن الانتخابات الرئاسية ، وكانت شعاراتهم في تسويق حملتهم الانتخابية حزبية لا فردية تنبع من التسويق للحزب الإسلامي والقائد المسلم ،
بغض النظر عن الاتفاق مع مبادئهم وأفكارهم أو عدمه.  وذلك بعكس عدد من الأحزاب الأخرى التي رفعت صور أفراد لتجعل منها القائد الرمز وقائد المستقبل مستغلة ذاكرة الشعوب حول نماذج البطولة التي رآها في بعض قياداته السابقة كرفع صورة القائد السابق جمال عبد الناصر لتأكيد أن القادم يتماهى مع نموذجه ويكمل مسيرته ، وتمجيد بعض النخب الإعلامية للقائد الفرد وربط اسمه بتنبؤات حول قائد مصر العظيم كتبت منذ ما يزيد على ألف سنة في ألواح تاريخية ، أو ربط اسمه بتنبؤات في علم الفلك والأبراج تنبيء بمجيء القائد الفاتح لمصر . فهذه النخب غير الصالجة التي تسلك أساليب ميكافيللية وصولية لم تتوان عن مديح الحاكم العسكري القوي وتمجيده لتكسب وده و توجه سطوته و بطشه على الحزب المنافس بقصد إنهائه في سبيل الوصول إلى سدة الحكم.، وكانت النتيجة أن انقلب السحر على الساحر فبرز الحاكم العسكري القوي أمام العامة ليكسب قوة الجماعات إلى صفه ويعتلي السلطة بسهولة ،ولنرى – بعد ذلك - بعض رؤساء النخب يحاولون انتقاد هيمنة السلطة العسكرية على كرسي الرئاسة و إبعاد الاحزاب السياسية عنها لتعود دائرة الصراع مرة أخرى.
إن  كثرة المغالاة والتمجيد لشخصية الفرد هي أداة صنع الدكتاتوريات والاستبداد. إذ تفسد الفرد وتعطيه السلطة المطلقة وتضعه فوق مصاف العامة لتصيرالسلطة سلطة الفرد لاالدولة أو الحزب. وبذلك تخلق النخبة بتملقها للافراد بغية التسلق للسلطة دكتاتوريتها الخاصة 
ونماذجها الفردية ، ومن ثم يعود الماضي وتتكرر الأدوار وتنتكس الثورة لتبحث الشعوب مرة أخرى عن نقطة بداية جديدة.
Assim Alkhawaja